الجمعة، 6 مايو 2016

الفرق بين المسافر والسائح والرحالة؟


(..الفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من طلب أو هرب)
الغزالي-إحياء علوم الدين

جبال الأنديز في بيرو، خيامٌ بلاستيكية، نار مشتعلة، رحالة منقطعون عن أوطانهم، نفوس صافية، ملامح من كل بقاع الأرض، فتاة بلجيكية فارعة الطول، تحتضن كوب قهوة، يمدها بالسهر والدفء، تطرح علينا هذا السؤال:
-        ما الفرق بين المسافر traveler والسائح  tourist  والرحالة Backpacker؟
وتنخرط "هيئة كبار الرحالة" في نقاش طويل عريض، تسجله نجوم الأنديز، معلنة عدم الوصول إلى نتيجة واضحة ومحددة. كل "الرحالة" يطالبون بتعريف يفرقهم عن السائح الذي يسافر من أجل الحصول على بشرة برونزية، أو ذلك الذي يريد حقن حسابه في الفيس بوك بصور سيلفي مع عجائب الدنيا.
استفزني الموضوع، لجأت إلى تراثنا الإسلامي، فوجد الكثير من الحديث عن السفر وأحكام السفر وآدابه وأدبياته، والكثير من مذكرات الرحالة وأدب الرحلة، لكني لم أجد تقسيماً عصرياً واضحاً، وقد أفرد الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين فصلاً عن السفر، قسمه إلى أربع أنواع: طلب علم، عبادة (كالحج)، فرارٌ بالدين، الرزق أو المرض. ثم استعنت بالمدونين الأجانب المشهورين في عالم السفر، فوجدت لديهم بعض التأملات والمحاولات البدائية لصياغة الفكرة، فقررت أن أقوم بجهدي في نحت الفكرة.
***
تطور العالم كثيرا خلال المئة سنة الماضية (من بعد الحرب العالمية الأولى)، وبدأت تنمو الكثير من المصطلحات والتقسيمات الجديدة في عالم الإقتصاد والسياسة والفكر(والعرب لا شأن لهم بذلك!). و"السفر" هو الآخر تغيّر جذرياً عن عن كل ما عرفه البشر من قبل، لكن المصطلحات ظلت جامدة.ولا يزال الناس يستخدمون المصطلحات القديمة بالرغم من تغير فكرة السفر كلياً، حيث لم يعرف العالم قبل مئة سنة فكرة السفر للراحة والإستجمام، بل كان ينظر للسفر على أنه "قطعة من العذاب" (كما في الحديث الشريف)، وكان السفر يستلزم مشقة وتعباً وجهداً كبيراً، أما اليوم فقد تحول إلى وسيلة للراحة وتجربة الفنادق والمطاعم والمقاهي والتلذذ بحياة البذخ والرفاهية. (والفرق كبير بين آلة العذاب وآلة الدلال). اقتصادياً، أصبحت السياحة تشكل مصدر دخل أقتصادي للكثير من الدول (فرنسا تتصدر القائمة)، وأحيانا هي مصدر الدخل الأول لبعض الدول (مكاو وسيشل). وأحياناً تكون السياحة هي المصدر الوحيد للدخل (على الغالب في الجزر الصغيرة مثل البهامس وبريتش فيرجن آيلاند)، بل إن حضارات عريقة كانت تسود العالم تحولت إلى مدن سياحية أشبه بالمتاحف المفتوحة (مثل فينيسيا التي أكرهها). ومن هنا ولدت شركات الطيران والبواخر والمنتجعات والفندقة والسياحة، لتشكل سوقاً عالمية ضخمة، وقد بلغ حجم سوق السياحة العالمي في 2015 مبلغ 7 تريليون دولار (7,170,000,000 $) وبلغ عدد السياح أكثر من مليار سائح!
(ملاحظة: هناك العديد من المؤسسات تعني بإصدار تقرير عن السياحة وحركة الطيران الدولية مثل: www.skift.com; ;www.wttc.org) )
أمام هذه التمدد في عالم صناعة السياحة، كان لزاماً علينا أن نواكب مثل هذا التطور في إعادة تعريف المصطلحات الأساسية، والتي لم تواكب هذه الصناعة، 
 ويبقى لكل لغة طريقتها في توليد الكلمات الجديدة، واللغة الأنجليزية بصفتها لغة فقيرة بالمرادفات والصرف، لذا يصعب عليها أشتقاق كلمات جديدة، فيعمدون إلى دمج كلمتين في كلمة، لذا يدمجون كلمتي Backpacker  إشارة إلى الرحالة، بينما تجد لدى العربية مرونة أكثر في إشتقاق الكلمات أو نحتها (النحت في اللغة أن تشير إلى جملة بكلمة، مثل "بسم الله الرحمن الرحيم" إلى "بسملة"). كما أن كلمة سائح "tourist" تشير إلى السفر المريح المتراخي، بينما دلالة سائح في اللغة العربية مختلفة. 
***
ينقسم السفر – حديثاً – إلى أربع أقسام:
1.    المسافر (الأسهل): السفر هو الإنتقال من مكان إلى آخر، بغض النظر عن النية أو الهدف. لذا كل من غادر بلاده فهو مسافر، وكل من ركب الطائرة أو  الباخرة أو السيارة فهو مسافر. ومثل هذا لا يحتاج أكثر من تذكرة سفر وحجز فندق، وقد يزور البلد ولا يفعل بها شيئاً، سوى بعض المقاهي والأسواق أو التمدد على الشواطئ أو سهر الليل. وهو من الأنواع الجديدة على البشرية. 
2.    السائح (متوسط): وهو الذي يسافر هارباً وطالباً، هارباً من روتين الحياة حرارة أو برودة الجو. وطالباً شيئاً جديداً في البلد الذي يزوره، لذا تراه يقوم بجولات سياحية لأهم المزارات والمتاحف والأماكن المشهورة، يدلل نفسه قدر الإمكان في الفنادق والمطاعم، ويرجع لوطنه سعيداً قد حقق ما يريد. تراه تعلم بعض الأشياء عن الثقافة التي زارها، وحصل على لحظات جميلة وصور تذكارية. وهذا النوع من السياحة هو النوع الجديد الذي طرأ على البشرية، ولم تكن تعرفه من قبل. ونظراً لإن الغرب  هو من قاد هذا النوع من السياحة(بلغ عدد السياح الأوروبين نصف مليار سائح عام 2015 ويمثلون نصف سياح العالم)، فهم من يضعون طرقه وأساليبه وذوقه. على سبيل المثال: أغلب الغربيين يعيشون في النصف الشمالي البارد من الأرض، لذا ابتدعوا سياحة التمدد في الشمس لتعويض نقصهم، ثم أصبحت السمرة التي تكتسبها جلودهم دلالة على الرفاهية والسفر، فأصبح الكل يقلدهم، حتى أبناء المدن البحرية الحارة (ممن شبعوا احتراقاً وشمساً) أصبحوا يقلدونهم ويزورن الأماكن البحرية للتمدد!
3.    الرحالة (صعب): وهم الذين يسافرون بحثاً عن شيء، لديهم راية محددة شمروا لها. تراهم يعيشون حالة أشبه بالغربة المؤقتة وهم يتنازلون عن الكثير من أجل الوصول إلى هدفهم. وهذا الصنف ليس جديداً على البشرية، إذ ظهرت لدى الغرب والعرب العديد من النماذج اللامعة، وفي بعض الفترات اختلطت فكرة الرحالة بالجاسوسية أو البحث العلمي، لذا كان يغلب عليهم الثقافة العالية. وشكلت كتاباتهم جسوراً ثقافية بين حضارات متباعدة أو متناحرة. وفي العصر الحديث برزت تخصصات للرحالة، مثل الرحالة الرياضين الذين يريدون صعود جبال أو أختراق أنهار، أو رحالة اجتماعيين – أصنف نفسي منهم- يستكشفون المجتمعات ويهتمون بواقعهم ويحاولون فهمهم.
4.    الغربة: وهي السفر من أجل الرزق أو الدراسة أو الصحة أو هرباً من حرب أو مجتمع متخلف. وتطول فترتها إلى ما يزيد عن سنة.
والسفر – مثل الأكل – مسألة ذوقية، كل يختار ما يناسبه، وليس لأحد علوٌ على الآخر أو فضل عليه، فمن أراد أن يكون مسافراً أو سائحاً أو رحالاً أو مغترباً فله الخيار وفي كل خير. ولا يذم إلا المسرف أو قليل الذوق من لا يحترم الشعوب التي يزورها.
وهذا اجتهاد مني في الموضوع، وواثق أن التطور القادم سيفرض مصطلحات وأقسام جديدة،  ومن كانت له نظرة فليصحح لأخيه الصغير.
وإلى أصدقائي في الأندير، وإلى المتسكعين حول العالم، ألا هل بلغت؟

عبدالكريم الشطي
َQ8backpacker

قناة اليوتيوب
https://www.youtube.com/channel/UC8TrGdxbqrkZJ__bkdGPmlw


هناك 11 تعليقًا:

  1. جميل أن يتكلم الرحال عن مصطلح يعيش من خلاله هوايته وعشقه..
    ولا أجد في الشطي الا واحدا من اولئك القلائل الذين يعشقون مايهوونه من حب الترحال على سجيته وأن يتجدد في أهدافه وهمته ليتحدث الينا من فوق جبال الأنديز ليحكي شيئا من تحاربه الغنية..
    نحن نسمعك ونشاهد ماتهدف اليه فالله خيرا حافظا لك ومزيدا من التألق ....
    أخوك رحال الخبر- وائل الدغفق

    ردحذف
  2. يا هلا بوبراهيم،
    نرتوي من تجاربكم، ونسرق بذورنا من فاكهتكم :)

    ردحذف
  3. تصنيف جيد

    أضف إلى هذه التصانيف أن السائح هو من يسافر لفترة مؤقتة وأماكن محدوده أما الرحالة فلفترة ممتدة ومناطق متعددة ولا يستوطن مكانا لفترة طويلة أثناء رحلته

    أحمد

    ردحذف
  4. مثلا الأستاذ وائل الدغفق
    لا يعتبر من الرحالة لأنه يسيح فترة محدودة ويعود أدراجه لأهله وبيته

    ثم يعاود الكرّة مرة أخرى

    قد نصنفه للسائح المستكشف أو المتجدد
    بحيث أن تحاول زيارة عدد أكبر من المناطق وتستكشفها بدل من التردد على نفس الأماكن

    أحمد

    ردحذف
  5. شكرا على المجهود ... وننتظر منك المزيد من المقالات الشيقة

    ردحذف
  6. تصنيف مَّثالي وجيدة لدرجة قصوى وقد إختصر على الكثير معنى المفاهيم والدلائل التي طرحتها أيها المُبدعَ

    أصنف نفسي ( سائح ) كما ذكرت أعلاه 👆🏻
    رغم أنني أمتلك عدد رحلات دولية ٦٥ رحلة دولية
    وزرت ٢٩ دولة جول العالم
    ولكنني سائح 🕵🏼

    شاكر لك رحالتنا الطيب

    ردحذف
    الردود
    1. تشرفنا بمرورك، ونتمنى زيارتك للكويت حتى تصبح 66 دولة، ونحظى بمصافحتكم ..:)

      حذف
    2. الشرف مَّنك وإليكَ إستاذي الكريم !
      قبل ٩ أيام كَُنت بالكويت سائحً ، كرمكم وشرفكم وأزاد خيركم وأنعم عليكم بالصالحات والبركات :)

      ومُتابعين لك ✌🏽️

      حذف
  7. مساؤك معطّر بالزهر أخي عبدالكريم, كنت بصدد البحث عن الفرق بين مصطلح السائح والرحّال, لأنني ألخص موسوعة تاريخية لمؤرخ عربي. مقالك جيّد ومثمر, ولدي إضافة على جواهرك التي نثرتها من مخزونك العملي من خلال الترحال بين ثنايا المعمورة ونظمتها لنا عقدًا فريدًا هنا في مدونتك, لكن ريثما أفرغ من بحثي أخي الكريم.

    ردحذف
  8. جميل اخي عبد الكريم تصنيف واضح جدا

    ردحذف
  9. تسلم يمينك يا عزيزي. #محب_السفر اجد نفسي سائح والسفر البري عندي له عشق

    ردحذف