الاثنين، 20 يونيو 2016

رسالة الرحالة



إذا كانت الحياة مدرسة، فإن "السفرُ" جامعةٌ

الرحالة صنف ممتاز من البشر، كسروا حواجز الجغرافيا، وثقفوا أنفسهم من خلال قراءة العالم، قراءة واقعية صادقة تغور في عمق البشر والمجتمعات، وتمكنوا بجوارحهم من ملامسة الفرق الهائل الذي تصنعه الجغرافيا في البشر، وشاهدوا الفرق بين المجتمعات المزدهرة والمتخلفة، لذا يجب أن تكون عقليتهم واسعة تؤهلهم على صنع فرق كبير في البشرية. وكما إنه لا يحق لمن حصل على شهادة عليا الجلوس في المنزل وكتم علمه، فإن من تخرج من مدرسة الأسفار يجب أن يكون فاعلاً في مجتمعه وعالمه وصانعاً للفوارق. 

تاريخياً، مع بداية قدرة الإنسان على السفر والكتابة، أصبح الرحالة "زرقاء اليمامة" في كل مجتمع، ينقلون له ما يحدث في العوالم الأخرى، كما فعل مارك بولو حينما نقل لأهل فينيسيا عالم الصين المدهش، وكان الفينيسيون أغنى شعوب أوروبا والبحر المتوسط في وقتها، ولديهم ثقة كبيرة بما يمتلكون، ولكن حينما قرؤا ما كتبه بولو أسموا كتابه "المليون"، دهشة منهم بالملايين التي يذكرها الكتاب، فهو يتكلم عن مدن يسكنها ملايين البشر وأشياء تشترى بملايين ليرات الذهب، بينما سكان فينيسيا وما تحكمه من أقطاعيات لا يتعدى المائة وعشرون ألف نسمة!
وفي فترة أخرى أصبح الرحالة، أجهزة إستخبارات وقرون إستشعار للحكومات والشركات الكبرى، فأصبحوا يحددون الأماكن التي يجب أن تستعمر أو تترك، والأماكن التي تحتوي على ثروات طبيعية -بما فيها البترول-لكي تشترى أو تحتل.
وفي العصر الحالي، أصبح الرحالة جسر سلام ومحبة بين الثقافات والشعوب، خصوصاً بين الثقافات التي لم يسبق لها أن تصافحت ولا تعانقت من قبل، وتنامى دورهم في المشاريع الخيرية والتطوعية حول العالم. وباتوا مسئولين عن نقل الثقافات الإيجابية والمفاهيم الخضراء إلى كل بقعة حول العالم. وفي كل البقع الفقيرة التي تزورها، ستجد رحالةً عاش مع الناس فترة، ثم قرر أن يبني مدرسة من طين، بيت أيتام، أحذية، بقرة، دراجة، بئر ماء...
وهنا يجب أن نفرق بين الرحالة والمسافر، الرحالة الذي تزيده كل دولة عمقاً، وبين مسافرٍ تزيده الأسفار جهلاً. ليس أسهل من السفر في زمننا، تستطيع أن تشتري تذكرة وفندقاً بلمحة بصر من أي تطبيق على جوالك وتسافر، ولكن ذلك لن يصنع منك رحالة، حتى وإن صورت كم صورة من قلب مدينة غريبة لمتابعينك، أو جمعت بعض المعلومات من ويكيبيديا وتلوتها في السناب شات، فإن ذلك لن يصنع منك رحالة، إذا لم تصادق الناس وتخترق المجتمعات إلى قلبها، وتتغير أنتَ كإنسان، فإنك ستظل مجرد مسافر لم يتغير فيه شيءٌ سوى ختم جديد على جوازه.
أخشى ما أخشاه أن ننزلق نحن الرحالة الخليجيون إلى ما يريده الخليج الإستهلاكي منا: فنادق فارهة ومطاعم تخمة! وننسى ما تعلمناه في "مدرسة الرحلة" من تواضع وبساطة، ننسى أن كل شخصٍ نقابله هو معلمنا، ننسى رسالتنا في نقل ثقافة الشعوب الأخرى، والمقارنة البنّاءة بيننا وبين الآخر، وتعريف الناس بنا، وترك بصمة وأثر في قلب كل من نقابله. علينا أًن نُذَكر شعوبنا بآلاء الله علينا، وأن نعرف الشعوب الأخرى علينا. علينا أن ننشر الخير في بيئة فقيرة ندخلها، ونترك ورائنا رائحة طيبة.
إذا لم يفعل الرحالة شيئاً من ذلك، فإن روحه لم تستفد من الرحلة شيئاً، و رحلته مجرد رياءٍ لمنصات التواصل، وسيسأله الله عنها يوم القيامة.
أخي الرحالة... لا يزال في الوقت متسع، لكي تنصت للشعوب، وتتأمل ملامح تاريخها، وتفتح عقلك من جديد، ثم تقرر أن تكون صاحب بصمة خير أينما حللت ورحلت.


الجمعة، 17 يونيو 2016

أستغفرك يا رمضان...

أستغفرك يا رمضان
لماذا أتيت يا رمضان؟
في كل عام تأتي، تُصّرِ على أن تعلمنا الزهد والكفاف، ونصر على أن نعلمك البذخ والإسراف. تريد أن تعلمنا قرصة الجوع وإحساس الفقراء، ونعلمك نحن بدورنا تخمة الكرش ومباهاة الأغنياء.
نحن أمة تغوص في الدهن والزيت واللحم والرز، وأنت تبشر بالتمر والماء والخبز. نحن ضدان لا نتفق، فلماذا تصرّ علينا إصرار نوحٍ على قومه.
بما أنك أتيت، دعني أخبرك شيئاً، في تلك السنة، سلكت طريق الحج المسيحي في أسبانيا، وقابلت الكثير من الحجاج المسيحين. لا زلت أذكر زوجين من عائلة فاحشة الثراء، لا يأكلان سوى الخبز والماء والخضرة والفاكهة، ويسيران كل يومٍ أكثر من عشر ساعات في طريق الحج. كانا يجيبانيا على إستغرابي، بإنهما يفعلان هذا الشيء قربة لله عز وجل، وترويضاً للنفس التي اعتادت على شهوات الطعام! كنت أنظر لتلك الفتاة البلجيكية الشقراء الطويلة الجميلة، التي مشت لأكثر من شهر، لا تأكل إلا الفتات، وحينما سألتها قالت: عشت مترفة أكثر من 25 سنة أتقلب في نعم الله، لذا فإن الزهد لمدة شهر لوجه الله، هو أقل ما نفعله. حينما قابلت نساك البوذا في تبت الصين، كان أحدهم يأكل الرز حافياً لعدة أشهر، كان أستاذه يقول له: شهوة البطن ستسمر معك طول عمرك، لذا أول طريقك إلى الله هو أن تقتل تلك الشهوة.
أستغفرك يا رمضان، لكننا نفشل كل عامٍ في اختبار الجوع. إذهب إلى أوروبا، آسيا، أفريقيا، هناك أمم أكثر صدقاً في الزهد وترويض النفس، هناك سيفهمون رسالتك. نحنا لسنا أهلك، نحنا لسنا بأهل زهد، نحن نأكل اللحم والإيدام مع كل مدفع، ثم نأتي في أول يوم عيد نحتفي باللحم، كأننا لم نذقه من قبل!
نحن نوقن بإننا على موعد مع القبر، مع الآخرة، مع الله، لكننا لا نكترث لذلك. نحن أضعف من أن نروّض أنفسنا، من أن نحرمها قليلاً. نحن نسمع أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يعيش على الخبز والزيت والتمر، آل بيته كانوا يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً وينامون جوعى. صحابته كان ينهر أحدهم الآخر لأنه اشتهى عنباً واشتراه: أكلما اشتهيت اشتريت!!!
أما نحن فنرى الفقراء يتساقطون جوعاً في قارات العالم، ثم نتبرع بعدة دنانير، ونشعر براحة نفسية، ونظن باننا اجتزنا الصراط وصرنا على أبواب الجنة.
أرجوك يا رمضان ارحل، أمامنا البرياني والهريس واللقيمات وأنت تحاضرنا عن الجوع!
***
ماذا طبختم للفطور؟

عبدالكريم الشطي 
Q8backPacker