الثلاثاء، 29 مارس 2016

"الصيام الإلكتروني"

 - الصيام الإلكتروني -
كيف نكافح الإدمان الإلكتروني؟

قال رحمه الله:
"العزلة/الخلوة في هذا الزمن هي شجاعتك في إقفال تلفونك لأيام!"
منذ فترة لاحظت تعلق من حولي بالشاشة، فلا يمر عليهم دقائق إلا وأعادوا النظر إليها. بدا لي أن الناس انتقلوا من المقاهي والبيوت والدواوين إلى التسكع في ساحات تويتر والمشي في عالم سناب والتجول في وجوه الأنستغرام والتندر على فكاهة الواتس آب. لكني في وقتها لم ألحظ نفسي، ولم أدرك مدى غرقي أنا في الآخر في هذه الدنيا الإلكترونية. إلى أن بدأت في مراجعة بعض المشاريع في حياتي، ولاحظت أن كل مشاريع متأخرة ومعطلة ومؤجلة، وبعد الوقوف أمام المرآة طويلاً لإصلاح نفسي، أكتشفت أن وسائل التواصل كانت سبباً رئيسياً في ذلك. وبدأت لحظتها رحلة إرادة صعبة في مواجهتها، محدداً أيام صارمة من الصيام، وساعات قليلة من الإستخدام، فكان أول ما لاحظته هو أنفراج في مشاريعي الحياتية ودوران عجلة إنجازي من جديد، فأحببت أن أشارككم بهذه التجربة.

خلف كل وسيلة تواصل هناك فريق متخصص، هدفه أن يبقيك مغلولاً في تطبيقه لأطول قدر ممكن. ومن أهم الأشياء التي يناقشها هذه الفريق هو منعك من الأنسحاب، ويشير هوشجمان (أحدي مصممي الأنستغرام) إلى ذلك في دراسات نفسية مطولة تم إعدادها بهذا الشأن. لذلك فإن وسائل التواصل مصممة بوصفة هيروينية تدفعك للإدمان، جرب بنفسك أن تلغي حسابك من أي تطبيق، ستجد نفسك عاجزاً عن ذلك. 
لكن كيف يحدث مثل هذا الإدمان الإلكتروني؟
1.   تقنعك الشركات بإن تخلفك عن إستخدام هذه الوسائل سيؤدي إلى عزلتك الأجتماعية، وأنك تخلفت عن ركب مجتمعك وأنك في طريقك للخلوة، فتندفع لفتح حساب "مجاني" لن يكلفك شيئاً. ويسمى هذا  الشعور "فومو"= الخوف من العزلة (FOMO: fear of missing out)، ثم تبدأ عملية محاصرتك من خلال وسائل زيادة المتابعين (التي تشبع غرورك) وعدد المعجبين وتعليقاتهم و...إلخ.
2.    ترى الدراسات أن أكثر من 80% من المحتوى في وسائل التواصل هي محتويات شخصية، تخص حياة الإنسان، وحديث الإنسان عن نفسه يسبب أن يفرز العقل موادا تزيد من سعادته ونشوته، لذا حينما أخذوا أشعة مقطعية MRI لعقول مستخدمي وسائل التواصل، وجدوا أن إفرازات السعادة تزداد مع أستخدام هذه الوسائل، وهنا "المصيدة".
3.   إذ أن المسألة تتحول بعد ذلك إلى عادة يومية، ومنها إلى إدمان، يشابه إدمان السجائر. ويصبح الإنسان متوتراً وعصبياً إذ حرم الإنترنت لوقت طويل. وقد لاحظت ذلك في أثناء أسفاري حينما لا يكون لدي إنترنت، أجد نفسي أفتح هاتفي الذكي – لا شعورياً – لتفقد حساباتي.
4.   طورت الشركات عملها من خلال "الفلاتر الذكية" - اشتهرت بها قوقل في البدايةـ تقوم بمراقبة أنماط المستخدمين وأمزجتهم من خلال مصفوفات حسابية  Algorithmic Filteringومعادلات معقدة، تجعلها قادرة على خلق وسائل جديدة لجذب الناس وإبقائهم في دائرة الإدمان لأطول فترة ممكنة. وهذه الشركات تتعامل معنا كفئران تجارب لكي تصل إلى تقديرات فلكية لقيمة هذه الشركات المتوحشة.
وقد قال رحمه الله:
"إياكم والموبايل، فإنه يضعكم في زنزانة أفتراضية، شباكها الوحيد هو شاشة الموبايل"
اليوتيوب مثلاً، نجح في خلق بيئة إدمان لشريحة كبيرة ممن يقلّون عن 20 سنة (بما فيهم الأطفال من عمر سنتين!)، وذلك لسببين: أولاً: أنه تخطى القنوات التلفزيونية في خضوعه لنزوات ورغبات المشاهد في أي وقت، ثانيا: نجح في تشجيع الشباب لصناعة فيديوات خاصة تشعر المشاهد بإن المشاهير يتحدثون معه ولأجله. كما أن الخيارات –التي تم أعدادها عن طريق المصفوفات الحسابية- التي يضعها اليوتيوب مع مشاهدة كل فيديو، ستجعلك متشنجاً أمام الشاشة لساعات، جرب أن تغطي طفلاً صغيرا اليوتيوب لمدة ساعة! (ولهذا الأمر آثار سلبية قاتلة على الشخصية والصحة)
وفي مواجهة هذا الإدمان طرحت إحدى المؤسسات البحثية برنامجا خاصاً أسمه "99 يوماً من الحرية" WWW.99daysoffreedom.com .  يتعهد المشارك فيه أن لا يستخدم الفيس بوك لمدة 99 يوماً، ثم يجرون أبحاثاً عن سعادتهم وشعورهم خلال هذه الأيام. ويطلبون منهم خلال هذه الفترة أن يغيروا صورتهم ويكتبوا بوستاً وداعيا، ثم تبدأ فكرة الصيام. وتشير النتائج الأولية إلى أن الكثيرين يفشلون في الصيام بعد الأيام الأولى، لإن هذه البرامج مصممة بطريقة نفسية صعبة تجعل الصيام عنها شاقاً على الإرادة البشرية.
الآن أسأل نفسك، هل أنت مكبلٌ بالأصفاد الإلكترونية؟ هناك أعراض واضحة لهذا المرض: هل تقلق لعدد متابعينك والإعجابات؟ هل تفتح الجهاز بمجرد استيقاظك من النوم أو خلال الساعة الأولى؟ هل تفتحه كلما شعرت بالملل؟ هل تشعر بإن مشاريعك الأخرى في الحياة (مثل قراءة كتاب، عمل خير، فنون، تجارة...) قد تعطلت أو تأخرت؟ هل تغضب إذا انسحب احد متابعينك أو قرر أحد أصدقائك عدم متابعتك؟
إذا كانت لديك هذه الأعراض، فعلى الأرجح أن وسائل التواصل بدأت تهدد حياتك وتشكل خطراً على توازنك، وهنا أنصحك بـ "الصيام الإلكتروني". وأول مرة سمعت فيها بهذا المصطلح، كانت من الصديق فراس بقنه (نشط في وسائل التواصل) في الرياض، حيث قابلته وكان للتو خرج من الصيام الإلكتروني وكان يحدثني عن هذه التجربة، وجربت بنفسي في عدة فترات أن أصوم عن وسائل التواصل لأجد نتائج مبهرة على حياتي.
هذه الشبكات لم تعد خطورتها على صحتنا أجسادنا، بل باتت تطال وظائفنا وصداقتنا وعلاقاتنا العائلية. كم واحداً منا أصبح متزوجاً من تليفونه، وكم شخصاً أصبح صديقاً لشاشته...
ألا تعتقد أنه حان الوقت لأن تدخل حراءً إلكترونياً؟


السبت، 26 مارس 2016

كيف أصبح رحالة؟


السؤال الذي يطرح علي 10 مرات في اليوم.

يقول لي أحد أصدقائي الرحالة:
"لطالما أستهوتني صور الرحالة، ولكن لم يسبق لي ان جربت حياة الرحالة، ثم في لحظة يأس وملل، قررت السفر فجأة إلى مخيم إيفرست الشهير Everest camp. وذهبت لمتاجر أغراض الرحلات Outdoors Stores، وأشتريت كل العدة الإحترافية اللازمة، ولبست ماركات الرحالة من رأسي إلى أخمص قدمي. وبعد يومين من بدء الرحلة كانت الهليوكبتر تحملني من منطقة قريبة من مخيم أيفرست إلى أقرب مشفى طبي بسبب سقوطي مغشياً عليه نتيجة لعبة ضغط المرتفعات، وتكبدت خسائر مالية كثيرة! لكنها البداية التي تعلمت منها كل شيء"
                                                              ***  
لا يمر عليّ يومٌ - في وسائل التواصل الأجتماعي - دون سؤال من الجمهور: كيف أصبح رحالةً؟ وشخصياً لم أعرف إجابة هذا السؤال من قبل، لإن دخولنا في عالم الرحلة والإستكشاف كان إرتجالاً ونتيجة لخبرات تراكمية لم يكن مخطط لها من قبل، لذا لا أجد أجابة معلبةً جاهزةً لهذا السؤال. ولطالما قسمت السفر إلى عدة درجات مختلفة: أولاً السفر، ثم السياحة، وأخيراً الرحلة. وفي عالم الرحلة هناك أكثر من صنف للرحالة، وأصنف نفسي رحالةً اجتماعياً يهتم باكتشاف الثقافات والمدن، وإجابتني ستقتصر على الرحالة الأجتماعي فقط. ولإن الكثير يعتقد بإن أول خطوات الرحلة أن تشتري ماديات وحاجيات تصنع منك رحالة! قررت أن أكتب هذا المقال. و سأحاول جمع عدة نقاط إرتكاز أساسية تشكل بداية جيدة لكل رحالة:
1.   سافر بروحك قبل جسدك:
 ماذا ألبس؟ أي شنطة تنصح بها؟ ما هي المعدات اللازمة؟...إلخ. هذه كلها أشياء شكلية وديكورات غير مهمة. المهم هو تواضع روحك وقبولها للآخرين، المهم أن لا تشعر بإنك أرقى أو أفضل أو أسعد منهم بشيء، اللحظة التي تشعر فيها بتقزز أو نفور من ثقافة أو مجتمع أو شخص، يعني أنك قد بنيت حاجزاً غليظاً سيمنعك من التمازج معهم. هل رأيت شيخ الدين الذي يقيم الليل ويصوم النهار ويرى نفسه أحقر الخلق وأصغرهم، ذلك مكانك في الرحلة، أقل الناس قدراً وأوضعهم ثقافة. وستكتشف حينها أن الآخرين – ممن استصغرتهم – يملكون أشياء لا تشترى. هذه الروح المتواضعة – وحدها – تجعلك تشارك عشرة أرجنتينين في شرب المتة من مصاص واحد، ومن بعدها ستدخل معهم في ثرثرة لا تنتهي تفهم من خلالها العقد الأرجنتينية المتراكمة في دواخلهم. هذه الروح تجعلك تجلس مع الاثيوبين في غرفة "البركة" حيث يتناولون القات ولتنكشف اسرارهم ودواخلهم. هذه الروح المنفتحة تعطيك تلك اللمسة الحانية التي تمسح فيها على أي مجتمع لتخرج الجنيَّ من المصباح. لا زلت أذكر حينما كنت في ماراكايبو في فنزويلا – من أخطر المدن العالم- حيث كنت أتنقل بكيس بلاستيكي يجمع احتياجاتي، وكانت من أسعد أسفاري وأكثرها عمقاً وغوراً في مدينة لا يجرؤ أحد على زيارتها، لكن الروح المنفتحة هي من تفتح لك المصاريع.
2.   معلوماتك هي سلاحك:
بقدر ما تقرأ عن المجتمع، بقدر ما تتفتح لك الحوارات والأبواب والبيوت. وكلّ ما عرفت أكثر عن المدينة، كلما سهل عليك تكوين علاقة حب ناضجة معها. والمعلومات قد تكون: تاريخاً (مادتي المفضلة)، سياسةً، رياضة (التي أجهلها) اجتماعاً، أخباراً، أقتصاداً، رموزاً، فنوناً... ونوعية المعلومات ستقودك إلى نوعية العلاقات البشرية التي ستنسجها. فمعرفتك – مثلاً – بـ"كرة القدم" ستعرفك بالطبقة التي تعشق الكرة، بينما معرفتك بالسياسة ستفتح لك أبواب المهتمين بالشأن السياسي. ونصيحتي في تجميع المعلومات عن المدينة تتدرج على النحو التالي:
1.  كتب تخطيط الرحلات Guide books: والتي عادة ما تمنحك  ثقافة شاملة عن البلد والتنقل فيها، وغالب الشركات –المحترمة- تقوم بتنقيح كتبها سنوياً. وللأسف لا يوجد شركات عربية تصدر كتب التخطيط للرحلات، والشركات تترجم كتبها لعدة لغات عدا العربية لقلة الرحالة العرب، وأعتماد العرب على المعلومات السمعية.
2.  كتاب تاريخي: بالنسبة لي فهم تاريخ المدينة هو السبيل الوحيد لفهم حالتها الراهنة، كما أن فهم التاريخ يعطي للأماكن قيمتها ويعطيك شعور التناغم والأندماج مع المكان. فزيارة "مدرسة الحسن" أو "مدرسة ابن طولون" في القاهرة لن يكون لها معنى دون فهم تاريخ المماليك. ولن تفهم تكوين الشخصية المكسيكية ولا احترامهم المبالغ فيه للناس من غير معرفة ماذا فعل الاستعمار الأسباني بهم؟ ولن تعرف لماذا يحب المصريون توزيع الألقاب مثل:باشا، بيك، أفندم ... إلا بعد معرفة التاريخ العثماني في مصر.
3.  قراءة مذكرات شخصية لرمز من رموز البلد: لإن المذكرات الشخصية تعطيك إيقاع الحياة اليومي للمدينة، وتعطيك الكثير من عاداتهم الراهنة التي ترتبط بشخصية المدينة. فقراءة "مذكرات كاسترو" سيجعلك تفهم لماذا توجد صور عبدالناصر في متحف الثورة.
4.  صحيفة يومية: متابعة قراءة صحيفة يومية لمدة أسبوعين قبل السفر سيتيح لك أن تكون ملماً باحداثهم اليومية، وخصوصاً السياسية والرياضية والأمنية. وهو ما يعطيك القدرة للحديث مع الناس بكل انسيابية.
أعتقد ان تجهيز عقلك بكل أو بعض ما سبق سيسهل عليك رحلتك.

3.   تكوين علاقات إلكترونية:
المواقع الالكترونية أصبحت تسهل التعارف على الناس، ما عليك إلا ان تكتب شيئا من أهتماماتك في جوجل وستجد العجب العجاب، ولا يزال الفيس بوك هو الأقوى والأكثر تأثيراً في تكوين علاقات دولية.
4.  المدونين والفيديويين ( إن صحت الترجمة)  Bloggers & Vloggers:
 أوصيكم بالرحالة المدونين، فهم ينقلون الكثير من المعلومات المعاصرة عن الدول، فهم يقدمون أدب رحلات تفاعلي ومعلومات طازجة. أما الفيديويين VLOGGERS فهم مدونون يقدمون مذكراتهم اليومية بالفيديو، ولهم مدوناتهم الخاصة او قنوات على اليوتيوب.

5.  اللغة: تعلم الكلمات الأساسية سيبسط لك الأمور، ويشجع الناس على التعرف عليك.
6.  التخطيط المبكر: وهو ما يساعد في خفض التكلفة، واستثمار الوقت، وبناء صداقات مبكرة، وهو ما سيعينك على أختيار حاجاتك المناسبة من شنطة وملابس ولحاف وخيمة.  
وإذا كانت العرب ترى الفصاحة في الإيجاز، أوجز الأجابة على سؤال كيف تكون رحالة؟ بعبارة واحدة: القليل من الجرأة والكثير من الثقافة.


عبدالكريم الشطي
رحالة كويتية

Q8backpacker

نص مجنح



مثلك تماماً، لم أختر رحم أمي، ولا أبي، ولا أخوتي،ولا تضاريسي، ولا ديني...بل حتى هويتي وشخصي تبلّورا عبر مراحل معقدة من المهد إلى الشيب. 
أنا مجبرٌ –مثلك تماماً- على كل ذلك وأكثر. 
لكني –عكسك تماماً- قررتُ أنْ أَلِدَ نفسيْ من جديد، رجعت "نطفةً"، كسرتُ سجنَ الوطن، صَنعتُ أجنحة فرناسية، وألقيتُ نفسي في رحمِ أسفارٍ غائرة، وابتعدت عن: أهلي، شيخي، توابلي، صديقي، سريري، مديري، بخوري...وبدأت أتخلّق من جديد في رحم مجتمعات غريبة! نطفةً، علقةً، مضغة. 
حَبوّت، بَكيّت، سَهرتُ، توّجعتُّ...لكني في النهاية وقفت على ركبتيّ، وقفت أمام المرآة أتأمل "عبدالكريم" الجديد! قد لا يكون هذا الجديد شخصاً مثالياً، لكنه جديدة، ولكل "جديد" طعم وتوابل مختلفة ... هذه المرة أعود للحياة باختياري، بقراري، باقتناعي... هل تريد أن تَلِدَ ذاتك من جديد، سافر، ارحل، توحد مع ذاتك، لا تكترث بالآخرين وطبق وصية المتنبي (لا تلقَ دهرك إلا غير مكترثٍ***مادام يصحب فيه روحك البدنُ) ...وستجد أمام المرآة شخصاً جديداً، وتعرف الفرق بين الثابت الممل ،والمتغير اللذيذ! 


(كتب هذا النص على الطائرة المتوجهة إلى كولومبيا 2012)


السبت، 19 مارس 2016

رحلة قصيرة.. جداً 2

حينما يكرمك الله في هذا الزمن، فإنه ينزع الخوف والمدينة من قلبك، فتغدو صلباً وقادراً على الانغماس في الطبيعة،، دسَّ نفسك في كهفٍ ، لأنهم سيرونك متوحشاً برياً متوهجاً، لن يفهموا روحك وطيرانك، لن يفهموا أنك فهدٌ في الدّغلِ ولا قطرةٌ في الأمازون، سيزدرونك، ويَدْعُونَ لك بالمدنيةِ مرةً أخرى. 
وحدك ستدرك جمال التوحش، واللذات الدامسة، والرطوبة الدافئة... اكفر بهم وبتحضرهم، وآمن بوحشتك.

شبق سمرقند

لا تصدقوا "سمرقند"، لكن اركضوا خلفها. منذ "أمين معلوف" وهي تضرب لي مواعيد عرقوب المتبخرة.  اسميت داري "سمرقند" زلفة لها.
اسميت شنطتي "سمرقند" قربانا لها.
إلا أن تلك المغرورة تمعن في عرقوبيتها واذلالي،  عقدين من عمري وأنا اشتهيها وهي تفلت مني مرسلة قبلات شوق مكتوبة أو أطياف ليلية عارية، وكان آخر إشاراتها هذه التحفة المحفوفة المنقوشة بقلم "قنديل"، صرعتني رسالتها الاخيرة، ولازلت على قيد الأمل بلقاءها...
للمدن غواية وشبق تدركها الأجنحة، ولا يدركها من يمشي على كعبيه. سأحج إليك يوما يا سمرقند، ساصفعك واضربك واركلك واشفي غليل عقدين من الانتظار. .. ثم سأ....
نعم سأ... (بكل ما أوتيت من رجولة)

الاثنين، 14 مارس 2016

24 ساعه في مدينه | هرر - اثيوبيا - الرحالة عبدالكريم الشطي Q8backpacke...





رحلتي إلى هرر المدهشة، تلك المدينة العريقة المعتقة المسورة التي تحرسها الضباع. هذه الرحلة كانت في أطار مطاردتي لأسرار القهوة وتاريخها المعقد...

My to trip to Harar in Etiopia, chasing coffee history and secrets .... on of my best trips ever


رحلة قصيرة..جداً 1


في ذات سفر، وقف قطارٌ قديمٌ ينفث تبغه استعداداً للرحيل. وَقَفْتُ أنا وهي وشنطتي على عتبة الرحيل/القطار، قالت لي دمعتها المحتبسة المحتسبة:  

-       كيف سأتواصل معك بعد اليوم؟

-       لا تتعبي نفسك، أنا رحالة، كُتِبَ عليّ التَيهُ في الأرض، أطأ أرضاً أو قلباً بكل حب، لكني لا أعود!

عضت خصلتها وأفلتت دمعتها، وَأَلْقَيّتُ بنفسي في القطار مُتبخراً!

الأحد، 13 مارس 2016

الوصايا العشر للسفر




If you want to LEARN from Travelling, You should LEARN how to travel.

"إذا أردت أن تتعلم من السفر، فعليك أن تتعلم كيف تسافر." (مذكراتي)

للأنتقال من السياحة (المملة) إلى الرحلة (الممتعة)، علينا نحن الخليجين والعرب أن نغير فكرنا في السفر، سواءً من ناحية تكرار المدن والتجمع فيها، أو من خلال انشطتنا ومحاولة سبر الثقافة الجديدة. وهنا الوصايا العشر – وهي عصارة عشر سنين من السفر- و ستعينكم حتماً في بداية رحلة ممتعة: 

الوصية الأولى: لا تسمع اقتراحات الآخرين:

نحن شعوب سمعية، نعتمد في قراراتها على تجارب من سبقونا، لذلك حينما نسافر فإننا نسأل اقربائنا: وين تنصحني أروح؟ أو فلان يمدح لندن/إسطنبول/البوسنة؟

لذا تبدو الخريطة ضيقة في أعيننا ومحدودة، بينما الأجانب يعتمدون أكثر على القراءة، وخبرات الرحالة المتخصصين. لذا تجدهم يختارون أماكن جديدة ومختلفة.

نصيحتي الأولى لا تستمع لمن حولك، لأن تكرر تجربتهم، وستجد نفسك في مكان مملوء بالخليجين والعرب.

بعد أن تقرأ وتختار البلد المناسب، اشتر كتاباً متخصصاً في السفر، حيث يساعدك على تخطيط كل شيئ: مسار الرحلة، التوقيت، الفنادق، المطاعم، الأنشطة، وكل ما تحتاجه من أجل سفرة حقيقية في أعماق البلد والثقافة.

وللأسف فلا توجد شركات عربية، تصدر كتب الرحلة التخصصية، ولكن هناك عدة شركات عالمية، منها:

1.Lonly planet.

2.Fodor’s.

3.Rough Guide (للرحالة المتقشفين)

  وستستغرب من دقة المعلومات وطريقة تنظيم الرحلة، والأنشطة المميزة التي يمكن ان تعملها، كما أنك ستوفر في ميزانيتك كثيراً.

ولمن أراد أن يستزيد، عادة ما ينصح بقراءة رواية عن البلد + مشاهدة فيلم وثائقي +متابعة صحيفة يومية قبل السفر باسبوع، لانها تعطيك فرصة الحوار مع الناس من خلال معرفة أهم احداثهم السياسية والفنية الرياضية. في الصورة بعض كتب السفر الخاصة بي.



الوصية الثانية: الحجز المبكر وعن طريق النت:

وهو الحجز الذي يتم قبلها بثلاثة شهور على الأقل، لأنه يعطيك مجال أرخص لتذاكر السفر، التي تستهلك أكثر من نصف الميزانية في الرحلة القصيرة، وثلث الميزانية في الرحلة الطويلة. كما ان الحجز المبكر يعطيك فرصة في تجميع المعلومات اللازمة عن البلد والثقافة.

بالنسبة لحجوزات الطيران فإن تطبيق skyscanner يعطيك أكبر قدر ممكن من الخيارات المتاحة.

كما أن تطبيق Agoda  يمنحك أسعار أقل من Booking  لكنه يحرمك من امتياز الغاء الحجوزات. وفي حال رغبت في مغامرة حجز فندق ممتاز بسعر رخيص Hotwire.com سيعطيك فرصة حجز فندق لا تعرف أسمه، وقد تكون محظوظ بفندق فخم بسعر رخيص.

 كما فكرة الفنادق العائلية أو المحلية Boutique Hotels ستعطيك طعماً مختلفاً لاقامتك، جرب أن تقيم في بيت عربي في دمشق او في المدينة القديمة في دبي (خور دبي)، ستجد لاقامتك طعماً مختلفاً عن اقامتك في فندق فخم. 

وهناك فرق كبير في أسعار حجز السيارات والقطارات كلما بكرت فيها.



الوصية الثالثة: خفف الشنطة:

الخليجيون والعرب مهووسون بوضع كل ما لا يحتاجونه في السفرة، أول شيئين يجب أستبعادههما من الشنطة:

1.الأحذية. (يكفي حذاء رياضي واحد +حذاء طلعة واحد)

2.الجاكيتات الشتوية.  (جاكيت واحد فقط)

أما حينما تضع الأشياء، فأي شيء تعتقد أنك قد تحتاجه... فلا تأخذه، خذ ما تتأكد من احتياجه فقط.

لأن الشنطة الخفيفة تساعدك على ركوب القطارات، الباصات، والمواصلات العامة. كما تساعدك على تغيير مخطط الرحلة بكل سهولة يسر.

الوصية الرابعة: تعلم الكلمات الأساسية:

متمثلة في السلام، الأرقام، وأدوات الأستفهام: كيف، أين، لماذا. كيفية السؤال عن الأسم والعمر والوظيفة. ستسغرب من الأثر الكبير الذي تفتحه لك هذه الكلمات. ستجد أن هذه الكلمات –مطعمة بلغة الإشارة وكليمات انجليزية- كافية لحوار مطول عن شتى أمور الحياة. واليوتيوب هو خير معلم سريع لأي لغة.

الوصية الخامسة: كن منفتحاً (ملقوفاً):

أَكثِرْ من الحوارات مع كل من تلقاه، سائق التاكسي، الجالس بالمقهى، موظفي الفندق، الناس في الشارع. اسأل عن مطاعمهم، حدائقهم، مشروباتهم، عاداتهم، اعيادهم. ستجد أن خطتك قد تغيرت لمغامرة جديدة بناءً على معلومة صغيرة سرقتها من أحد العامة. أذا حصلت على فرصة دخول منزل أحدهم، فلا تضيعها أبداً، لأنها ستكون بداية الرحلة الحقيقية! ولكي تسهل عليك مهمة الدخول إلى قلوب الناس، أحمل معك هدايا رخيصة من بلدك، شماغ، دهن عود، مسباح، ووزعها على كل من تستطيع صداقته.

تجربتي في الطعام اللذيذ، دلتني على خطتين للحصول على ألذ طبق:

-        أن تدخل بيت عجوز وتقنعها بإن تطبخها لك.

-        أسال اسمن وأضخم كرش تراه في الشارع عن ألذ مطعم في المدينة!!



الوصية السادسة: لا تشتري الهدايا ولا تفكر بها. (Mission impossible)

يكفي أن تغمض عينيك وتتخيل مناظر شنط الخليجيين في مطارات العالم، حيث تشاهد الأب وخلفه حملة مفاتيح قارون وهم يجرون الشنط في طريق عودتهم للبلاد، تسأل الأم التي تبدو مسكينة متعففة: شنو هذا خالتي؟ ليش كل هالشنط..

فيأتيك صوتها العجائزي المتقطع: صوايغ يا وليدي، فشلة خواتي كل ما سافروا يابولي صوايغ!!!

تنظر إلى الأب المسكين وقد تحولت سفرته إلى كسرة ظهر وديون بسبب الهدايا..

الكثير من الوقت يضيع في البحث عن الهدايا وشراءها ونقلها، والغريب أن بعض المسافرين لرحلات قصيرة يضيعونها في البحث عن الهدايا. تذكر أن أجمل هدية تقدمها للناس هو صورك الجميلة ومعلوماتك الجديدة عن الثقافة.



الوصية السابعة: استخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتعرف.

قبل السفر، بأمكانك الاستفادة من الفيس بوك، الأنستغرام، وباث، لتكوين علاقات سريعة ومفيدة. فنجان قهوة مع أحد سكان المحليين سيشكل علامة فارقة في رحلتك، من حيث الأماكن الجديدة ومعرفة أسرار البلد. أما للرحالة المتقدمين فإن Couch surf يعطيك فرصة أن تنام عند احد السكان المحليين مجاناً (موقع مثل الفيس بوك للرحالة يوفر لهم بيوتاً محلية). كما أن Poeplehunt يعرفك على الكثير من الرحالة المسافرين لوحدهم.

الوصية الثامنة: جرب أن تتوه قليلاً:

بعض الأماكن متعتها في أن تنزع ساعتك، وتهجر قوقل ماب، وأن تضيع وتذوب فيها: مثل دمشق القديمة، هافانا القديمة، سان ميشيل Saint Michelle  في باريس، جامع الفنا في مراكش، ليجيينغ Lijiangفي الصين..وغيرها الكثير. خصوصا تلك الحواري والأزقة القديمة التي لا تحتاج فيها لأكثر من قدميك.



الوصية التاسعة: أشتر خطاً محلياً واستخدم خريطة الكترونية:

أشتر خطاً محلياً، واحمل هاتفاً ذكياً، واشترك بخدمة الأنترنت، لأنك ستحتاجه سواءً باستخدام الخرائط، البحث عن مطاعم، مقارنة أسعار، معلومات سريعة. ولا تنسى قفل التلفون وتركيب برنامج التعقب في حال السرقة.

أنا شخصياً أعتمد على قوقل ماب بشكل أساسي، فهي متوفرة على كل التلفونات الذكية، كما أنني أستطيع حفظ أختياراتي المفضلة للأبد، والرجوع إليها في كل وقت. وهي تساعدني في وضع جدول الرحلة في المدن المزدحمة، حيث أضع الأماكن القريبة في يوم واحد، فاختار المطعم القريب من المتحف، والمتحف قريب من الحديقة، والحديقة قريبة من المقهى، فلا أضطر أن أنتقل من شمال المدينة إلى طرفها الآخر وتضييع وقتي.



الوصية العاشرة: طعام الشوارع:

 طعام الشوارع، غالباً ما يكون الاكل لذيذاً ورخيصاً ومشبعاً. قد تتسمم في المرة الأولى، لكن معدتك ستقوى حتماً بعدها. (الضربة لا تقتلك، تقويك). وأسواق الشوارع كذلك تكون غنية بمنتتجات البلد الحقيقية، لكن لا تنسى أن "تكاسر" وتفاوض على السعر.

 


24 ساعة في مدينة : مكسيكو سيتي.


ضمن سلسلة 24 ساعة في مدينة، تجدون هنا حلقة خاصة عن مكسيكو سيتي العاصمة. وعلاقتي بالمكسيك وإن بدت متأخرة، إلا أنها قوية وعاطفية، كأنها علاقة من الصبا....

كوبا ..بلد كرهته!


(هذا المقال نشر في موقع العربي الجديد في ملحق الجيل الجديد على ثلاثة أجزاء)

بلدٌ كرهتها، لذا أتلذذ بالكتابة عنها، فالكتابة والرحلة عدوان! لإن الكتابة تتطلب العزلة بينما الرحلة تتطلب الآخرين، وفي كوبا كرهت "الآخرين" فحصلت على عزلة كافية للكتابة.

 تمكنت من خلال علاقاتي من ترتيب سكن لدى عائلة كوبية، على أن نتفق على السعر بمجرد وصولي، إذ  كان هناك غرفتان في المنزل وكل غرفة بسعر. لحظة وصولي، بدت لي العائلة جميلة، الأب من أصول أسبانية سمين أبيض الشعر وناعمه، له حنجرة غليظة، بينما الأم من أصول رومانية، قصيرة، سوداء العين، شقراء قصيرة الشعر، وعندهم ابنتان، أحداهن متزوجة لم أقابلها والأخرى تقيم معهم في نفس المنزل، وتشبه أمها وأباها في آن واحد.

عرضا عليّ غرفتا نوم لا فرق بينهما – من وجهة نظري- لكن سعرهما مختلف، الأولى كانت بـ 100 دولار في الأسبوع، والثانية بـ 120 دولار في الأسبوع. كلاهما تشمل الوجبات الثلاث وغسيل الملابس. سألت عن الفرق بينهما؟ فقالت الأم:

-       ألم تلاحظ الفرق بنفسك؟

-       لا لم ألحظ فرقاً

هنا تدخل الأب بتعالي مضحك، وهو يقول لزوجته:

-   يبدو أن هذا الشاب يأتي من بلد متخلف تكنلوجياً، وقد لا يعرفون مثل هذه الاختراعات.

شعرت بإن هناك تكنلوجيا متطورة لم ألحظها، فسألت على أستحياء:

-       وما هو الفرق بين الغرفتين؟

فأشارا إلى مروحة صغيرة مغبرة في طرف الغرفة، قائلين:

-   الرطوبة في هافانا عالية، لذا نحن نستخدم "المراوح" في الغرفة، ولا أدري إذا كنتم تستخدمون مثلها في بلادكم، لكن إذا حجزت الغرفة بالمروحة، سأعلمك كيف تستخدمها!

قررت أن أدلل نفسي وأستمتع بتكنولوجيا المروحة.

أتلومونني على كره هذا البلد!

***

السفر في حقيقته آلة زمن، تنتقل فيه من زمن لآخر قبل أن تنتقل فيه من جغرافيا إلى أخرى. لذا حينما أقرأ وجه أي مدينة للمرة الأولى، فإنني أحاول أن أحدد في أي زمن أعيش. وفي هافانا سيكون شعورك حتماً أنك تعيش في الستينيات! لإن الرزنامة في هذه الجزيرة قد تجمدت منذ السيتينيات. كأن البلد أعجبتها حقبة الستينيات، فتوقفت عن النمو رافضةً الأنتقال إلى الحقبة التي تليها. كل شيء هنا يوحي بالستينيات: السيارات، البيوت، الأكل، الوجوه، قصات الشعور، التكنولوجيا، ورائحة البشر. والسر يكمن في الحصار الإقتصادي الذي فرضته أمريكا على كوبا منذ الستينات، ودخول البلد في دوامة إشتراكية تشجع بدعة الإكتفاء الذاتي تأميم الدولة لكافة المرافق الحيوية جعل البلد.

حينما تنظر إلى كوبا في الخريطة من بعيد، ستبدو لك كـ"نمش" متناثر على وجه المحيط، وإذا أرجعت البصر كرتين، ستبدو لك كبندقية قديمة مغروسة في خاصرة أمريكا. وهي كذلك فعلاً، فمنذ دخولها في نزاع مع أمريكا اتخذت هذه الدولة قرارين كبيرين تحدت فيها أمريكا بشكل صارخ، الأول حينما منعت تصدير السكر إلى أمريكا التي كانت تعتمد على السكر الكوبي، مما أدى إلى نقص شديد في السكر في أمريكا، الثاني حينما سمحت لروسيا بإن تضع رؤساً نووية في الجزيرة موجهة إلى أمريكا! والآن يعيش الشعب الكوبي في حصار اقتصادي أمريكي عمره أكثر من خمسين سنة!

***

حينما تصل إلى هنا يجب أن تكون مجهزاً بكل شيئ تحبه، لإنك لا تملك خيارات عدة، فهنا يوجد من كل منتج صنف واحد فقط. فيوجد نوع واحد من الكاتشب والكوكا والعصير والرز والدواء، وكله من إنتاج مصانع الدولة، فلكم أن تتخيلوا رداءة المنتجات.

كما أن المواطن لا يسمح له إلا بمصدر دخل واحد، يكون من الدولة أيضاً. لذلك حرص صاحب المنزل على تذكيري دائماً بأن أقول للناس والجيران بإنني في ضيافته، وأنني صديق لأخيه المقيم في الصين، وأنني لا أدفع مقابلاً للسكن لديه، وإلا تعرض للسجن بتهمة الحصول على تمويل من غير الدولة!

***




"العالم العربي وأمريكا اللاتينية توأمان"

 كلُّ ما في الأَمرِ أَن أمريكا اللاتينية تسبقنا زمنياً، لذلك كلُّ ما يحدث فيها، يحدث لدينا بعدها بفترة زمنية. وكل دولة لاتينية هناك دولة عربية تشبهها. والآن عليّ أن أعرف ما هي الدولة العربية التي تشبه "كوبا"؟

سأصف لكم الشعب الكوبي، تاركاً لكم تحديد توأمه العربي:

الكوبيين لديهم تلك الثقة العالية، بأنهم أفضل الأفضل: أطيب طعام، أجمل شواطئ، أفضل موسيقى، أجمل نساء...إلخ. وهم يدّعون هذه الأفضلية دون أن يكلفوا أنفسهم تجربة ترابٍ/توابل/جغرافيا جديدة. يعتقد الكوبيين دائماً أن كوبا هي محور العالم وأن العالم كله يدور حول كوبا، وأن أمريكا لا تستطيع النوم بسبب كوبا. ويتميز الكوبيون بخفة الدم وسرعة الكلام، لذلك فهم يضيفون إلى مرارة الحياة جرعات من الفكاهة تجعل طعم الحياة مستساغاً. وأخيراً فإنهم مستعدون للإفتاء في أي موضوع يجهلونه والإجابة عن أي سؤال لا يعرفونه، بطريقة مدهشة وبتسلسل موضوعي مقنع ومضحك! إن أكبر صفعة يمكن أن توجهها لسائق تاكسي في هافانا أن تقول له: أنك لا تعرف طرق هافانا، يبدو أنك جديد على المدينة! 

باختصار، يكاد يقول لك الكوبي بإن كوبا هي "أم الدنيا"!

***

أكثر ما يغيظني في هافانا هو تلك النظرة للسائح. فهو في أعينهم عبارة عن "دولار" له رجلين! فهم يفكرون دائماً في كيفية إستغلالك والحصول على مالك. ويرجع ذلك لسببين:

الأول: لإنك –بكل بساطة- مصدر الدخل الوحيد بالنسبة لهم. لإن النظام الإشتراكي يمنع المواطنين من أي مصدر دخل غير ما توفره له الحكومة.

الثاني: أن الحكومة ابتدعت فكرة الدولار السياحي، ويسمونه الكوك، حيث يدفع السائح قيمة كل الأشياء بالكوك، وهو ما يعادل أربع أضعاف الدولار الكوبي. لذلك فإنك تدفع للتاكسي نفس المبلغ الذي يدفعه المواطن، لكن بالكوك، وبذلك تدفع أربع أضعافه.

 لذا فإن الناس هنا سهلون ومنفتحون ومرحون، لكن سرعان ما ينقلب الأمر إلى مصلحة مالية، صحيح أن المبالغ أو الخدمات التي يطلبونها صغيرة، لكني لا أحب فكرة "التسول" بين الاصدقاء.

 وبعد مرورأسبوع، تعرفت على رحالة هولنديين مضى عليهم عدة أشهر في هافانا، بعضهم يتعلم اللغة وبعضهم يتعلم الرقص. وعرفوني على شاب كوبي اسمه رينو، أصبح صديقنا، هذا الشاب يعيش في لندن، ويتقاضى راتبه بالباوند، فلا حاجة له بأموالنا. كان مرحاً خلوقاً ومعجباً بفتاة هولندية كانت ضمن المجموعة. وأثناء خروجنا من أحد المطاعم، مررنا بجانب رجال شرطة، رحبوا بنا وسألونا من أي البلاد نحن، فأشار شاب هولندي –بحسن نية – إلى رينو قائلاً:

-       هو من كوبا!

امتقع لون رينو، أخذه شرطيان على انفراد، وطلبا منا أن ننصرف فوراً، إلا أننا وقفنا نحاول أن نفهم ما يحصل، همس لنا شاب هولندي قائلاً:

-       القانون الكوبي لا يسمح للمواطنين بمخالطة الاجانب.

-       لكن لماذا؟

-       هم يدّعون أنهم يفعلون ذلك حفاظاً على أمن وسلامة السياح، ولكنهم في نفس الوقت يمنعون شعوبهم من الإنفتاح ومعرفة ما يجري في العالم الخارجي.

وفي خلال دقائق، اقتاد الشرطة رينو إلى سيارتهم، حيث أودع في السجن لمدة ثلاثة أيام بتهمة "مخالطة السياح"! أدركت سر أمان كوبا من هذه الحادثة، فالبلد آمنٌ جداً، أكثر آماناً من أي عاصمة أوروبية، والسبب هو انتشار الشرطة، ومنع الشعب من التحدث مع السياح، وأدركت بإن نسج الصداقات في هذا البلد سيكون صعباً.

***

الشيء المريح والمتعب في كوبا، هو ندرة الأنترنت. والأشخاص الذين يمتلكون اتصالاً بالنت، هم على الغالب يعملون في وظائف تتطلب الإنترنت، لذا لا يوجد فيها مقاهي أنترنت. وحينما سألت عائلتي الكوبية عن الأنترنت، دلوني على بيت مهندس يعرفونه، زرته في منزله، واتفقنا على مبلغ دولار سياحي (كوك) لكل نصف ساعة انترنت. أدخلني غرفة صغيرة، فيها كمبيوتر يعود إلى العصر الأموي، ويعمل بتقنية Dial Up حيث تشتغل الصافرة لعدة دقائق قبل أن يفتح النت! كان علي أن اختار وقتاً يتناسب مع توقيت الخليج، لكي أتكلم مع عائلتي وأصدقائي عن طريق المسنجر!

 هذا التخلف قد يبدو متعباً، لكنه في الواقع كان مريحاً لذهني وجسدي، ويمنحك القدر الكافي من العزلة لتندمج أكثر مع المجتمع اللاتيني.
***


ضقت ذرعاً بـ"هافانا" عاصمة كوبا، فبعد 3 أسابيع لم أنسج أي صداقات ولم أنجح في اختراق المجتمع، فحملت شنطتي واتجهت إلى منطقة تسمى ترينيداد Trinidad
إذا أنكرتني بلدةٌ أونكرتها *** خرجت مع البازي على سوادِ
(البازي=الصقر، السوادِ=الليل. والبيت لبشار)
تبعد هذه المنطقة 5ساعات بالباص عن هافانا، وتقع في منتصف الطريق بين هافانا وغوانتامو. وغوانتامو تقع ضمن محافظة تسمى سانتياغو، تشتهر بثقافتها الخاصة التي تسمتد جذورها الأفريقية من بواخر العبيد التي كان يشتريها الأسبان من أفريقيا للعمل في زراعة السكر في كوبا. وبما أن ترينيداد تقع في المنتصف، فهي تحمل خليطاً كبيراً بين الثقافتين، ثقافة اسبانيا وثقافة أفريقيا.
 حينما تصل إلى المدينة، ستجد مدينة كلونية على طراز المدن الإسبانية القديمة، بيوت عربية يتوسطها الفناء، لا تزيد قامتها عن الطابقين، كنائس، حدائق صغيرة، نخيل، بيوت ملونة، وهدوء تحت الشمس، وموسيقى تحت القمر. لم أكن أحمل أكثر من شنطة ظهر ولحاف، ومذكرات تشي جيفارا (ماذا يمكن أن تقرأ في كوبا؟).
 كنت قد وصلت المدينة في الصباح الباكر، تركت الخريطة جانباً، وقررت التسكع دون هدف في لقائي الأول مع ترينيداد. انطلقت من الساحة الرئيسية الفخمة إلى  الأزقة الضيقة المتعبة، رأيت الإبتسامة تمتزج بالعرق، ورأيت الشيخوخة تمتزج بالطيبة، توقفت عند محل خضار، وجدت فاكهة جديدة، جربت بعض الأنواع. عادت لي روحي مرة أخرى لإن وجدت شعباً مختلفاً عن هافانا، أكثر طيبة، وأقل رأسمالية. سألت الناس إن كان بإمكان النوم في الحدائق العامة، أستغربوا السؤال، لكنهم اقترحوا علي ساحة الكنيسة للنوم. بعد المغيب، سمعت صوت غيتار يأتي من أحد الحدائق، تبعته لأجد شاباً أسمراً يعزف بخشوع دون أن يغني، وقفت قبالته أنظر بأذني لعزفه. وإذا بيد تربت على كتفي من الخلف، كان رجلاً أسمراً هو الآخر ويشبه الصبي، تعرفت عليه، كان والد الصبي، طلب مني أن أنضم لعائلته التي تجلس  في طرف الحديقة.
 الرجل كان أسمراً، زوجته شقراء، وأولاده الخمسة كانوا سَلَطَةً مُشّكلةً، والتزواج بين الألوان والأعراق في كوبا مسألة عادية جداً، ومنتشرة جداً، حتى تكاد تشعر أنها الأصل. على عكس أمريكا (بلد المساواة) التي يندر أن تشاهد فيها هذا المشهد. وحينما سألت الزوجين –بعد سقوط الكلفة- عن الزواج المختلط، قالا:
-   في كوبا ما يهم هو "الحب"، متى ما توافر الحب سقطت الشروط الأخرى.
-       لكن أَلَمْ تَشْعرا بالغرابة من الموضوع؟
-       وما الغرابة في الموضوع، كل شيئٍ يَنجذبِ لعكسه!
وبعد جلسة مطولة مع العائلة، سألاني أين أقيم، فأجبتهما بالأجابة المعتادة:
-   أنا خليفة الله في الأرض، لذا فأنا انام في أي مكان يحلو لي.
يبدو أنهما أستطابا معشري، فدعوني للنوم في بيتهم ... مجاناً!
***
أكرمتني العائلة الجديدة، بأعطائي سرير ابنتهم الصغيرة، فقد رفضوا أن أنام في غرفة الجلوس، وفي الصباح أعدوا لي إفطاراً  خفيفاً وقهوة لذيذة. والقهوة في بيوت كوبا تذكرني بالقهوة في كوستا ريكا، لإنها طازجة، يشترونها من المزارع أسبوعياً (للعلم القهوة الطازجة يجب أن تشرب خلال 7 أيام من قطفها، لإنها تموت بعد ذلك، وهذا لا يحصل إلا في أماكن نادرة في العالم، وتحرص "مافيا القهوة" في العالم على أخفاءه عنا).  وأردت الخروج إلى غابة صغيرة تبعد ساعتين مشياً، فأخبرتني الأم بإنه سيقام أحتفال يسمونه كرنفال القمر في أحد ضواحي المدينة، لذا علي أن أعود إلى المنزل قبل السادسة (أرأيتم كيف أصبحت فرداً في العائلة بهذه السرعة). في الطريق إلى الغابة، وجدت ثلاث فتيات من دول مختلفة:غانا، اليونان، كوبا. فرحوا لوجود سائح "رجل" ليرافقهن إلى الغابة، فقد كن يخشيّن أن يحصل لهنّ شيء وهنّ فتيات. استغليت الفرصة لأندد بمكر النساء وتحايلهن، فقلت:
-   إذا أردتن الحصول على امتياز رجولي قرعتن أجراس المساواة، وإذا أردتن الحصول على واجبات الرجل وامتيازاته رفعتن شعار رقة الأنوثة.
الغريب أن الفتيات أيدنني بشدة، وقالت لي اليونانية:
-    في ثقافتنا وجزيرتنا لا زلنا نفرق بين الأدوار الذكورية والأنثوية.
 الفتاة الغانية (من غانا) كانت على معرفة جيدة بأصول الرحلات البرية، وهي منْ جَهّزَ الطعام وصفّا الماء من النهر وأعد كل شيء تقريباً، وقالت لي بإنها كانت تخرج في رحلات صيد مع والدها وتعلمت كل فنون الرحلات. وفي نهاية اليوم حصلت على دعوة عشاء في اليوم التالي لمنزل الفتاة الكوبية لتجربة طبخ أمها.
في المساء ذهبت مع عائلتي إلى الكرنفال، كان بسيطاً جداً، من إعداد البلدية ومن تنفيذ طلبة المدارس. أجمل شيئ في الكرنفال هو سعادة الناس المنتشرة أفقياً وعامودياً، كانوا كلهم يعرفون بعضهم بعضاً، ويتبادلون الأكل والشراب ويطربون لموسيقى الشارع. ويصفقون لابنهائهم المشاركين في الأستعراضات. كان لدي كاميرا ديجيتال، وخلال ساعة اصبحت انا وكاميرتي حديث الكرنفال كله، واصبح الأطفال يتحلقون حولي لمشاهدة المعجزة التي جاء بها العربي من وراء البحار.
عوضتني ترينيداد عن الجفاف الأجتماعي الذي أصابني في هافانا بسبب جشع الناس، وأعادت لي أنسانيتي وانفتاحي وثقتي في الآخرين.
نحن نظلم العالم حينما نعتقد أن كل مدينة تشبه جارتها، السفر يعلمك بإن كل شارع يختلف عن الذي يليه.